صلبا فى الدين كان، رحيما بالفقراء كان، قويا على العظماء كان، اجتمع عنده التفقه فى الدين والحفاظ على الكتاب والسنة مع الاجتهاد وإعمال العقل، فكانت حياته لوجه الله خالصة، لا تعرف التعصب لمذهب، ولا الانحياز لفئة، ولا الطمع فى مال، ولا السعى لجاه أو سلطان، فجزاه الله بما عمل وأصبح من ألقابه سلطان العلماء وإمام الأولياء وعز الدين وقاضى القضاة ومؤدب الملوك.
وقف أمامه أحد تلاميذه منبهرا بعد أن نهر الملك أمام الرعية فى يوم العيد ليأمره بالكف عن الفواحش ومحاربة المفسدين فى بلاد المسلمين، فقال له تلميذه: ألم تتهيب من الملك يا شيخنا؟ فقال له العارف بالله والسابح فى ملكوته والعالم بقوته وعونه وسنده: والله يا بنى لقد استحضرت فى نفسى هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامى كالقطة.
قال عنه الإمام الذهبى: «بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، وقال عنه ابن دقيق العيد: «كان ابن عبدالسلام سلطان العلماء»، وقال عنه ابن الحاجب: «ابن عبدالسلام أفقه من الغزالى»، وقال عنه ابن السبكى إنه: «شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها»، أما العامة من محبيه وطلابه وتلامذته فقد رفعوه إلى مراتب الأولياء، تناقلوا عنه الحكايات، وادعو أن له كرامات، فما كان منه إلا النهى عن التحدث فى مثل هذه الأشياء، قائلا إن الكرامة والعزة والمعجزات لله تعالى، وليس لله شريك.
هو عز الدين بن عبدالسلام المعروف باسم العز بن عبدالسلام، أحد أكبر شخصيات الإسلام عبر عصوره، شاهد المحنة وشهيدها، المحارب بقلبه وقلمه وعقله ولسانه ويده، تاجر مع الله منذ أن عرف الله، فربحت تجارته وما هو من الخاسرين، هو ذلك العبد الربانى الذى اصطفاه ربه ليحمى حمى المسلمين ويطهر بلادهم من الضعف والوهن والخوف والحزن، هو ذلك الطفل الصغير الذى تعلم من الحياة أن الحياة زائلة، فخلد اسمه فى القلوب والعقول والتاريخ، هو صاحب السيرة العطرة واليد العليا والاسم الطاهر والأثر الشامخ، هو الصغير اليتيم الذى لم يجد ما يسد رمقه ويستر عريه ويأوى جسده إلا مسجد دمشق الكبير «المسجد الأموى» فعمل به صغيرا يحرس الأحذية ويشعل المسارج ويكنس الإيوانات، فحرسه الله من كل شر، وأضاء قلبه بنور الإيمان، وطهره من الرجس تطهيرا.
ولأن الله قد أراد به خيرا يسر له أن يتفقه فى الدين ويتبحر فى الفقه ويتعمق فى السير إلى نور الله، فكان كلما أبحر واستغرق نجا وتعمق، قد يظن البعض أن المصادفة وحدها هى التى وضعته فى هذا الطريق، لكن الحق أن الله هيأ له العلم ووضعه فى طريق علماء أجلاء أوفياء، فأخذوا بيده، وأعانوه على حاجته، وأدبوه وأفهموه وعلموه، فكانوا نعم المعلم، وكان نعم المريد.
جذبته آيات الذكر الحكيم، بينما هو فى المسجد يعمل ليلا، فاتبع الصوت فإذا به يصل إلى حلقة شيخ الشيوخ العالم ابن عساكر، فاختلس الجلوس والسماع لآيات الله وأحاديث رسوله، ولما لاحظ الشيخ الكبير وجود هذا الصبى، طرده من الحلقة لما وجده من حداثة سن الصبى ورثاثة ملابسه، فإذا بالصبى الصغير يهرع إلى باب المسجد ويظل ملتصقا به باكيا لحرمانه من سماع ما تشتهيه نفسه وتتوق إليه روحه، فإذا بالشيخ يخرج ويجد الفتى على ما هو عليه، فيرق قلبه ويلين، يسأل الفتى أتحب العلم؟ ويجيب قلب الفتى: وهل أحب غير العلم؟ يعرف الشيخ الخبير بالناس والعالم بسمات العلماء أن الطفل الواقف أمامه صادق، فيسأله عن أحواله ولما أجاب الفتى ووجده الشيخ على ما هو عليه من فقر واحتياج يقرر أن يتكفله بالرعاية.
ينشأ الفتى فى كنف هذا الشيخ الكبير فيتعلم ويحسن التعليم، يكلفه بدراسة كتاب فى شهر فيأتى إليه بعد ثلاثة أيام وقد حفظه وفهمه واستخلص ما به من فائدة، يأمره بحفظ سورة فيزيد سورة أو اثنتين أو ثلاثة، يحب الفتى العلم ويجد نفسه فى التعلق به والتفكر فى تجلياته، يحدوه نور إلهى نحو الطريق، فلا يتورع عن السير يسمع أن ما من طالب يطلب العلم حتى تحف به الملائكة فيستأنس بهم متحصنا بالله من وحشته ووحدته، يسمع عن الصوفية الحقة وأحوالها فيقتبس قبسا من نورها يجلس إلى شيوخها ومريديها، يسمع عن عالم بالعراق يحفظ الحديث ويعقد حلقات الدرس، فيشد الرحال إلى بلاد الرافدين ويعود إلى شيخه القديم «ابن عساكر» بعد أن تعلم وفهم ما لم يكن بوسعه أن يتعلمه، فيفرح به شيخه ويعتمده مدرسا فى حلقة الجامع الأموى الكبير.
ها هو الصبى يجلس ومن حوله الطلاب يسألونه فيجيب، وبرغم كونه شافعى المذهب، أشعرى العقيدة، لكنه لم يكن يتقيد بمذهبه، فكان يفتى بما يراه صالحا للناس وأنسب، وأقوى حجة وأكثر قربا لروح الشريعة، ولكنه كان أكثر ما يكون متشددا على الملوك الجبابرة والعلماء المنافقين، وكان لحزمه وصرامته سبب وجيه، فالعدو على الأبواب مازال، وصلاح الدين الأيوبى ذلك الرمز الذى كان يجمع شتات البيت الأيوبى ويوحد تحت رايته حكم مصر والشام قد مات، وتنازع إخوته وأبناؤه على الحكم، فصارت الأمصار الإسلامية إلى التشتت بعد الوحدة، وكل أمير على إمارته يستميل العلماء والفقهاء بكل ما يستطيع، أما العز فلم يكن من هذا الصنف من البشر، وقد استغنى عن الخلق بالخالق، واستكفى بالكافى عمن سواه، ولكنه لم يكن يكتفى بدور الساكت عن الحق، وما كان له أن يقنع بأن يكون «شيطانا أخرس» فكان دائم اللوم على علماء السلطان مجاراتهم للسلطان،
فأفتى الشيخ بأن السكوت عن المنكر منكر، وأن علماء المسلمين أولى الناس بأن ينهوا الخلفاء والحكام عن المنكر، وأن تخليهم عن نصح الحاكم ورده عن الظلم مخالفة لله ورسوله، وأن سكوتهم عن الحق طمعا يعظم من إثمهم ويقبح ذنبهم، بل زاد فى الهجوم عليهم حينا استفتاه أحد الطلاب: هل لهؤلاء العلماء طاعة علينا؟ فقال العز: لا طاعة لهم عليكم كالما لا يطيعون الله ورسوله، وهو بذلك يجرد العلماء الذين يداهنون السلطان ويعينونه على الفقراء من سطوتهم وملكوتهم، وهو ما أثار استياء الفقهاء منه وزاد من حنقهم عليه.
كل هذا والشيخ ماض فى سبيله، يفتى الناس متحرجا من مسؤولية الفتوى، ويرفض هدايا الحكام ولا يقبل عليهم، وينأى بنفسه عن مظاهر البذخ، مفضلا تجارته مع الله التى جربها وأيقن من تحقق ربحها الواسع، يفضل أن يعيش فقيرا على أن يرى فقيرا يقرصه الجوع وينهش فى لحمه البرد، ويفضل فى الإفتاء أن يراجع نفسه مرة بعد مرة، وأن يعود إلى الحق متى وجده، حتى أنه يروى عنه إنه ذات مرة أفتى لرجل فى مسألة، ولما رجع إلى منزله اكتشف خطأه، فراح يبحث عن الرجل الذى أفتى له، وجعل تلامذته يطوفون فى الشوارع والأسواق ينادون على من أفتى له الشيخ قائلين: من صدرت له فتيا بالأمس العز بن عبدالسلام فلا يعمل بها فهى خطأ، وليعد إلى الشيخ ليفتيه بالرأى الصحيح، فزادت هذه الميزة من شعبية الشيخ ومحبته فى قلوب الناس، فصار شيخا شهيرا فى دمشق كلها، يحصل على راتب كبير من الجامع الأموى نظير تدريسه به، لكن بيته هزيل وصغير من كثرة ما يتبرع به لـ«أهل الله» يرفض إلحاح زوجته عليه فى توسعة دارهم وهى التى كانت تريد بيتا يحيطه بستان، وحتى حينما جمعت زوجته مصاغها وألقت به إليه ليشترى لها البيت الذى تريد رجع إليها خاوى الوفاض من البيت والمصاغ، ليخبرها أنه تبرع بالأموال للفقراء ليشترى لها قصرا فى الجنة!!
فى مقابل زيادة محبة الشيخ فى قلوب العامة زاد حقد علماء السلطان من أتباع المذهب الحنبلى عليه، فهو بالإضافة إلى لومهم الدائم ومهاجمته الصريحة لهم كان يتهمهم بالحمق والجمود وفساد الرأى والإساءة إلى الإمام العالم أحمد بن حنبل، وهذا ما جعلهم يشتعلون غيظا ويحاولون مرة بعد مرة أن يوقعوا بين الإمام العز بن عبدالسلام والسلطان الأشرف الأيوبى لأنه كان حنبليا مثلهم ويأتمر بأمرهم، لكنه لم يستجب لهم فى البداية لعلمه بمكانته الإمام ومدى تفقهه، لكنهم لم ييأسوا، فدسوا إليه فتوى يعرفون رأيه فيها لعلمهم بأنه يتبع المذهب الأشعرى فى العقيدة، وهو ذلك المذهب السنى الذى حارب به الأشعرى المعتزلة وحاججهم به، ولما وصلت الفتوى إلى الإمام عرف أنها مكيدة، لكن شرفه العلمى أبى عليه أن يتخوف من أن يفتى فى مسألة يعرف جوابها، وأبت عليه كرامته كتمان ما يعتقد فيه خوفا من المكائد، فكتب الإمام بخط يده ردا وبخ فيه سائل السؤال وقال ما يعتقده بكل صراحة وشجاعة وتحقيق، وهو ما اعتبره الحنابلة انتصارا لهم وزفوا الفتوى إلى الملك مستغلين جهله بأمور العقيدة ومتسلحين بسلطان مذهبهم عليه، فثار الملك على العز بن عبدالسلام واتهمه بالكفر، وأقسم لينزلن به عقابا كبيرا، وهو ما أغضب فقهاء المالكية والشافعية وحاولوا أن يصلحوا بين الشيخ والملك، لكن الملك أبى فتضامن الفقهاء الحقيقيون مع الإمام ووقعوا على نص الفتوى التى سببت الأزمة وقالوا إنهم يعتقدون نفس ما يعتقده الإمام، فخفف الملك من عقوبة الشيخ واكتفى بعزله عن الإفتاء والدرس، فامتثل الشيخ للحكم ومكث فى بيته ثم عاد إلى الفتوى بعد أن وصل الملك الكامل أخو الملك الأشرف إلى الشام ونهر أخاه على موقفه من الإمام وقد كان يعرف قدره ويبجله، وإمعانا فى اعتراف الملك بخطئه عين الإمام فى منصب الإمام الأكبر للجامع الأموى، فسار يحكم بين الناس بالعدل، وأمر السلطان برفع الضرائب عن الصناع والتجار والفقراء وأن يجعلها على الأغنياء فقط، أى أنه أمر بما نطلق عليه هذه الأيام «الضريبة التصاعدية» فاستجاب له السلطان صاغرا.
وما أن مات الملك الأشرف وتولى مكانه الصالح إسماعيل حليف الصليبيين حتى اضطهد الإمام العز بن عبدالسلام بكل ما أوتى من قوة وبطش، واستمال إليه علماء الحنابلة الذين كانوا يحيطون بسابقه «الأشرف» لما علم منهم حبهم للهدايا والمنح واستعدادهم لعمل كل ما يرضى السلطان، ففرض الضرائب الباهظة على الفقراء والصناع مرة أخرى، وأحاط به تجار العبيد والنخاسون وأصحاب المواخير، وأحيا كل المفاسد التى أمر الله بها أن تموت، والأنكى من كل ذلك تحالف مع الصليبيين ضد إخوانه من أبناء الدولة الأيوبية، بل سمح للصليبيين أن يشتروا السيوف التى يحاربون بها المسلمين من دمشق وكانت من أفضل أنواع السيوف، فتصدى الإمام لانحرافات الملك وسار يمشى فى الشوارع يقول للناس إن من يبيع للصليبيين سيفا فقد خان العهد مع الله والرسول ولا ذمة ولا عهد له ودمه مهدر وماله مباح، بل خطب فى الناس مطالبا بخلع الملك الذى منح الصليبيين أرضه وتحالف معهم ضد إخوانه فى الدم والدين، وامتنع الأئمة على المساجد من الدعاء للملك بعد فتوى الإمام وهو ما يعنى أنهم لا يعترفون بالصالح إسماعيل ملكا، فما كان من الملك إلا أن أمر بسجنه واستعان على الشيخ بفتاوى من فقهاء الحنابلة تقول إن الخروج على الحاكم «حرام» والملك أدرى بما فى صالح المسلمين، غير متورعين عن اتهام الإمام بأبشع التهم قائلين إن الإمام ما كان ليحارب الملك إلا لغرض فى نفسه.
بعد فترة أمر الملك بالإفراج عن الشيخ على أن يلزم بيته ولا يخرج منه إلا لصلاة الجمعة، فما كان منه إلا أن يطلب الإذن بالخروج من دمشق والسفر إلى القاهرة، فأجابه الملك بعد مناورة، على أن يخرج فجرا دون أن يخبر أحدا خشية أن يثير الناس مشهد خروج الشيخ فينقلبون عليه، وبالفعل خرج الإمام، لكن فى طريقه إلى القاهرة لاقى أشد المهانات من الأمراء التابعين للصالح إسماعيل، وضايقوه وآذوه وحبسوه حتى أن الرحلة التى لم تكن لتتعدى شهرا استغرقت عاما، ولما وصل الإمام إلى القاهرة وكان المصريون قد سمعوا به وأحبوه خرجوا لاستقباله لابسين ملابس العيد فرحين بالإمام الجديد الذى جدد الله به شباب الإسلام وأعاده إلى سيرته الأولى، حيث الحب والعدل والرحمة والعطف والإخاء.
كان الملك الصالح نجم الدين أيوب ضمن من استقبلوا الإمام على باب القاهرة، وأخذه من يده وأدخله بيته الجديد قائلا له إن هذا البيت ليس من ماله ولا من بيت المال، بل من أهالى القاهرة الذين فرحوا به فتبرعوا بأموالهم ليشتروا له هذا البيت، وحينما دخلت زوجة الإمام إلى البيت الجديد فرحت فرحا شديدا لأن به بستانا كما كانت تحلم علاوة على ذلك يطل على النيل، وإكبارا للشيخ وتعظيما لقدره عينه الملك الصالح نجم الدين أيوب قاضيا للقضاة، وهو ما جعل أيام الإمام الهنية فى القاهرة تقل، حيث اصطدم الإمام بالملك فى مواجهة شهدها أهل مصر كافة، وكانت هذه المواجهة حينما وجد الإمام أمراء المماليك يبيعون ويشترون ويتزوجون من الحرائر وهم مازالوا عبيدا، فمنعهم من إبرام العقود وأفتى بعدم صحة زواجهم من الحرائر، وهو ما أثار استياء الأمراء والملك على حد سواء، لكن الإمام الذى لا يخشى فى الحق لومة لائم لم يرجع عن فتواه حتى باع الأمراء فى السوق واشتراهم الملك ثم أعتقهم وأخذ العز أموال بيعهم وصرفها على الفقراء والضعفاء والمساكين والطلاب.
واستمر الإمام فى فتاواه التى لا تهاب ولا تخشى، وحينما حكم على أمير مملوكى ولم تنفذ الشرطة حكمه تقدم بنفسه ونفذ الحكم ثم استقال من القضاء لاعتراضه على عدم تنفيذ حكمه، فارتاح الملك من فتاواه التى كدرت عليه حياته وقلبت عليه أمراءه، واستغل الإمام هذه الفترة فى وضع الكتب التى كان يحلم بكتابتها، واستخرج من خلال عمله فى الإفتاء والقضاء أحكاما كثيرة ووصل إلى نظريته الخاصة فى الاجتهاد، معتمدا على العقل بعد النقل فجدد شباب الفقه الإسلامى حتى قال عنه إمام المذهب المالكى فى دمشق وقتها: لم نعرف منذ الأئمة الأربعة من هو أفقه من الغزالى إلا العز بن عبدالسلام.
«الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح» تلك هى القاعدة التى وصل إليها الإمام بعد تبصره واجتهاده، فما فيه المصلحة فيه الخير كله، وما فيه اجتناب المفسدة فيه الخير كله، والحالان هما قصد الشريعة الأساسى، وفى ذلك يقول الإمام: ومن أراد أن يعرف المصالح من المفاسد فليعرضها على العقل.
وفى ذلك يقول أيضا: إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء معاطب الأسقام، والذى وضع الشرع هو الذى وضع الطب، والاثنان موضوعان لجلب المصالح ودرء المفاسد وتأسيسا على وجهة النظر هذه استنبط الكثير من الأحكام، فنهى عن المشقة فى العبادات، قائلا إن الله جل وعلا لم يكن ليشق على عباده، تماما كما لا يقصد الطبيب أن يعذب المرضى بالدواء المر، وفى تفضيله للمصالح فقد أمر باتباعه الأحسن مستدلا على ذلك بقول الله تعالى «يستمعون القول فيتبعون أحسنه»، قائلا إن إنقاذ الغرقى مقدم على الصلاة والصيام، كما أفتى بأنه لا ولاية للأئمة البغاة الذين يغلب عليهم الفجور، ومصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء، كما أفتى بجواز التيمم للنساء إذا ما كان الماء يؤثر على جمال وجههن ويصيبه بتغير لونه كما يحدث فى الشتاء، كما أفتى بجواز العيش فى البلاد التى يعم فيها الحرام، لأن ترك المؤمنين لهذه البلاد يمكن الفجار منها، وأفتى بضرورة ووجوب الثورة عند وقوع اغتصاب سلطة أو مال أو عرض قائلا إن ثورة المغصوبين على الغاصب واجبة، كما اعتبر الإمام المتصوفة الحقيقيين الذين لا يسقطون العبادات ولا يؤمنون بالخرافات «أهل الحقيقة» وكان على صلة مودة كبيرة بالحسن الشاذلى وإبراهيم الدسوقى، بل كان يقول لتلاميذه «اسمعوا كلمتهم فهو قريب العهد من ينبوع الحقيقة»، وكان فى كل فتاواه بعيدا عن التقليد وقريبا من روح الشريعة، لا يأخذ من كل مذهب أحسنه وينهر من يطالبونه بالالتزام بمذهب واحد ويقول لهم إن الله لم يأمرنا بأن نقلد الصحابة فكيف نقلد الأئمة أصحاب المذاهب.
لكن حدث ما جعل الشيخ الإمام المجاهد يترك عمله واجتهاداته ويخرج للناس مسرعا، فقد وصلت الأنباء إلى البلاد بأن الصليبيين يهاجمون دمياط فخرج الشيخ إلى هذه البلدة ليحث الناس على الجهاد وملأ الدنيا دعوة للجهاد فى سبيل الله فانتصر المصريون على الصليبيين، وكان له أكبر الأثر فى المعركة، ولما حاول التتار أن يغزوا مصر انتفض الشيخ مرة أخرى وحث الناس على الجهاد وحينما أراد الأمير قطز أن يفرض ضرائب جديدة على الناس منعه من ذلك وقال له خذ الأموال التى تريدها من أمرائك وأغنياء البلاد واترك الفقراء لفقرهم فاستجاب الملك، وأخذ يحفز الناس على الجهاد حتى انتصر المصريون على التتار، وبعدها أصاب الشيخ الوهن والكبر وعلم أن ميعاد لقائه بربه قريب، فقال لأبنائه ساعدونى لأذهب إلى الدرس، وكان قد انقطع عنه منذ مدة، فساعدوه وجلس على جلسته يفسر القرآن ليلاقى ربه وهو يفسر الآية التى تقول «الله نور السموات والأرض».